إن الذي يتأمل واقع العلوم والتكنولوجيا عند المسلمين اليوم، لا يمكنه بأية حال تصديق براعتهم فيها خلال القرون الوسطى.
وما يثير الدهشة في تكوين الشخصية العلمية المسلمة قديما هو الجمع بين علوم شتى تتراوح بين الفقه والفكر، والطبيعة والفلك، والهندسة المعمارية والجبر.
ففي الوقت الذي أبدع فيه النصريون (ملوك بني الأحمر) بالمعمار الأندلسي في غرناطة، وفاق واقعهم خيال فنون المدرسة الرومانسية التشكيلية بل سبقها للوجود قبل أن تعرف بسبعة قرون آنذاك، حينها ظهر للوجود فقيه مسلم ذو ثقافة موسوعية لا يقل أهمية عن سابقيه.
إنه الفقيه المفسر، الأديب اللغوي، المناظر المنظّر، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يلين الصنهاجي المصري، المعروف بالإمام القرافي، المولود سنة 626هـ/1228م، المتوفى سنة 684هـ/ 1285م.
تعلم القرافي على يد ابن الحاجب (646هـ)، و العز بن عبد السلام (660هـ)، وشرف الدين الشريف الكركي (689 هـ)، وغيرهم من كبار علماء عصره.
خلف القرافي عدة مؤلفات في علوم عديدة، أشهرها على الإطلاق موسوعته الفقهية "الذخيرة" المتكونة من 14 جزءًا (طبعة دار الغرب الإسلامي - بيروت 1994م)، وفي أصول الفقه الإسلامي كتاب ''نفائس الأصول في شرح المحصول" المكون من 9 مجلدات ( طبعة مكتبة نزار مصطفى الباز1995م). كما ألف في اللغة والأدب وأصول الدين والفقه الأكبر.
يذكر القرافي في مؤلفه الشهير المذكور سلفا: "نفائس الأصول في شرح المحصول"(ج 1/ص 440- 442): ، يذكر أنه سمع عن اختراع عجيب أخبره عنه أحد وزار الدولة الأيوبية، حيث يقول: "وقد أخبرت عن القاضي الفاضل (596هـ) وزير الملك الناصر صلاح الدين (589هـ)، أنه جاءه رجل، فقال له: "عندنا صنم يتكلم، فذهب إليه معه، فوجده صنما من رخام أحمر، قد أتى عليه الرمل إلا رأسه وهو ساكت. فقال له الفاضل: ما له لا يتكلم ؟ فقال له: تريد ذلك؟ فقال نعم، فوضع الرجل إصبعه على ثقب في وسط رأسه، والريح يخرج منه خروجا شديدا، فمنع الريح من الخروج، حتى تغمر باطن الصنم به، ثم فتح ذلك الثقب، فشرع الريح يخرج، وجعل الصنم يقول: هاتان المدينتان كانتا لشداد وشديد ابني عاد، ماتا وصارا إلى التراب، من ذا الذي يبقى على الحدثان؟ وطول في الحدثان تطويلا شديدا، حتى فرغ الريح من جوفه، ثم أعاد سد ذلك الثقب، فأعاد القول بعينه مرارا، وهولا يزيد على ذلك ولا ينقص".
كما يذكر القرافي في ذات الصفحة من الكتاب أنه بلغه عن الملك الكامل ناصر الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب (615هـ)، بأنه طور طلب تتطوير الاختراع والزيادة فيه، فيقول: " وعلمتُ أنا هذا الشمعدان، وزدتُ فيه أن الشمعة يتغير لونها كل ساعة، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويغلق باب ويفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص أعلى الشمعدان وإصبعه في إذنه، يشير إلى الآذان، غير أني عجزتُ عن صنعة الكلام، وصنعتُ أيضا صورة حيوان يمشي ويلتفت" (م.س/ص 442). انتهى كلام القرافي.
في هذا المقام تتجلى لنا عبقرية الفقيه المخترع التي اجتمعت في شخصية القرافي وهو يحاول أن يسابق عصره بما أتيح له من أدوات ووسائل تكونولوجية كما نطلق عليها اليوم. ولو أتيح له أكثر واستطاع التوصل إلى الذبذبات وبصمة الصوت والذكاء الاصطناعي لفعل ذلك ولتجاوز اختراعه حدود الزمان والمكان.
كما يتضح جليا إخراج الإمام القرافي اختراعه من دائرة الحكم الشرعي الفقهي إلى فضاء التجريب العلمي، فبدلا من انشغاله بتحريم التجسيم ونفخ الهواء في صنم يشكله بيديه وهو ما تم تأويله من مدارس متأخرة على أنه منافسة الله في خلقه ومحاولة بث الروح التي لا يعلم أمرها إلا الله، فقد انشغل الإمام القرافي باختراعه وماهيته في زمنه ومدى أفادته للبشرية.
هنا وجب علينا التساؤل بجدية عما ينقص المسلمين اليوم جماعات وأفراد لإحياء فكر القرافي وأقرانه، عمليا لا نظريا، لعل الأمة تستفيق من غفوتها وتعود إلى رشدها فتدرك دورها الحضاري والإنساني المنوط بها وتتدارك ما فاتها.
وحين يركن أبناء المسلمين إلى الخمول والاعتماد على الغير، وتتحول الشعوب الإسلامية إلى شعوب مستهلكة بدلا من كونها منتجة، ويتخلى الأفراد والجماعات عن واجباتهم الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية، فذكرهم بالفقيه المسلم الذي أسهم في إفادة البشرية بفكره وبعلمه، وبادر بمحاكاة منجز علمي واختراع وتطوير جهاز آلي (روبوت ) في القرون الوسطى.
م. فاروق.ط
©المنبر الإعلامي لمسجد باريس الكبير 2023
Comments